كان بقاء عدد كبير من الأحاديث الصحيحة خارج "الصحيحين" دافعا ومحركا لهمة الحفاظ والمحدثين إلى جمعها واستيعابها والتصنيف فيها.
وكان من أبرز من فعل ذلك: الإمام أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البُستي، فقد أراد أن يسهِّل على المتعلمين الوصول إلى الصحيح من الحديث وحفظه، فصنّف كتابا جامعا سمّاه:
"المسنَد الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطْع في سندها ولا ثبوت جَرْح في ناقِليها".
وسُمي اختصاراً "التقاسيم والأنواع"، وشاع على ألسنة الحفاظ والمحدثين باسم "صحيح ابن حبان"، لكونه اشترط فيه الصحيح.
وقد كان للإمام ابن حبان منهج وشروط وضوابط، نصَّ بنفسه على بعضها، واستُنتج البعض الآخر، لكنها في مُجملها تستحق أن يتم التوقف عندها، وأن يُعتنى بها، حتى تُكون نبراسا لكل من أراد معرفة منهجه وطريقته.
منهج الإمام ابن حبان المتعلق بالأسانيد
أولا: شروطه في أسانيد صحيحه:
1- صحة الإسناد: أن يكون الحديث متصل الإسناد، بنقل الثقة عن الثقة، من أوله إلى منتهاه، سالما من الشذوذ ومن العلة.
2- الرجال (الرواة): اشترط في كل شيخ من رواته خمسة أشياء: أولها: العدالة في الدين بالستر الجميل، وثانيها: الصدق في الحديث بالشهرة فيه، وثالثها: العقل بما يحدث من الحديث، ورابعها: العلم بما يحيل المعنى من معاني ما يروي، وخامسها: تعري خبره عن التدليس، فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس احتج بحديثه، وكل من تعرّى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم يحتج به.
ثانيا: منهجه في ترتيب أحاديث صحيحه:
نحا الإمام ابن حبان في ترتيب كتابه طريقة غريبة، أنتجتها عقليته المتميزة بالقدرة على التصنيف والإبداع، المبرمجة بعلم الأصول والكلام، وقد دعاه إلى ذلك ما ذكره في مقدمته من أنه أراد أن يحمل الناس على حفظ السنن.
فلم يجد حيلة في ذلك إلا أن يقسم السنن إلى أقسام، كل قسم يشتمل على أنواع، وكل نوع يشتمل على أحاديث، قصده في ذلك أن يحذو ترتيب القرآن؛ إذ القرآن مؤلف من أجزاء، وكل جزء منها يشتمل على سور.
وكل سورة تشتمل على آيات، فكما أن الرجل يصعب عليه معرفة موضع آية من القرآن إلا إذا حفظه، بحيث صارت الآي كلها نصب عينيه، فكذلك يصعب عليه الوقوف على حديث في كتابه إذا لم يقصد الحفظ له، ثم قال ابن حبان:
"وإذا كان المرء عنده هذا الكتاب، وهو لا يحفظه، ولا يتدبر تقاسيمه وأنواعه، وأحب إخراج حديث منه، صعب عليه ذلك، فإذا رام حفظه أحاط علمه بالكل، حتى لا ينخرم منه حديث أصلا، وهذا هو الحيلة التي احتلنا ليحفظ الناس السنن".
ولما كانت الحاجة ماسة إلى هذا الصحيح، فقد احتال الأئمة في تقريبه، وتوطئة سبله، وفتح أبوابه، فسلكوا في ذلك مسلكين اثنين:
الأول:
فهرسته عن طريق ذكر أطراف أحاديثه، وهو ما فعله الحافظ العراقي في كتابه "أطراف صحيح ابن حبان"، وألف الحافظ ابن حجر كتاب "إتحاف المهرة بأطراف العشرة" منها: "صحيح ابن حبان".
الثاني:
إعادة ترتيبه على الأبواب الفقهية، شأنه شأن سائر كتب السنن، والتي يسهل فيها الكشف عن أي حديث منها، وممن رتبه: الحافظ محمد بن عبد الرحمن، المعروف بابن زريق، والأمير علاء الدين الفارسي، وقد سمى كتابه "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان".
ثالثا: منهجه في تكرار الحديث:
بيّن الإمام ابن حبان منهجه في تكرار الحديث فقال: "وأتنكّب عن ذكر ال ـ مُعاد فيه إلا في موضعين: إما لزيادة لفظةٍ لا أجد منها بُدًّا, أو للاستشهاد به على معنى في خبرٍ ثانٍ, فأما في غير هاتين الحالتين فإني أتنكَّبُ ذكر ال ـ مُعاد في هذا الكتاب".
رابعا: منهجه في بيان طرق الحديث واختصارها:
الأصل في إخراج الأحاديث بأسانيدها أن يُفرَد كل حديث بالرواية سنداً ومتناً، ولكن خشية التطويل دفعت الأئمة - ومنهم الإمام ابن حبان - إلى اتباع طرق للاختصار، منها:
1- جمع الشيوخ بالعطف:
جمع بين شيوخه بالعطف بحرف الواو، طلبا للاختصار، وعدم تكرار الجزء المشترك من الإسناد بأكمله، ومن ذلك قوله في صحيحه: "حدثنا محمد بن عبد الرحمن الدَّغولي، ومحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة، وعدة، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء.. " الحديث.
2- جمع الأسانيد بالتحويل:
جمع بين الأسانيد باستخدام حرف يدل على التحويل - أي الانتقال من سند إلى آخر- وهو حرف "ح"، والهدف من التحويل اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين، بعدم تكرار القدر المشترك بينها.
وتوضع حاء التحويل "ح" عند الراوي الذي تلتقي عنده الأسانيد، ويكون عليه مدار مخرج الحديث، وقد توضع حاء التحويل بعد ذكر جزء من المتن، عند الموضع الذي يبدأ فيه اختلاف الروايتين.
3- ذكر بعض الطرق أو جزء من حديث والإشارة إلى الباقي للاختصار:
إذا كان للحديث أكثر من إسناد أو متن، فإنه قد يذكر بعضها ويشير إلى باقيها، دون أن يذكرها بطولها، قال الإمام ابن حبان في صحيحه بعد أن ذكر أحد الأحاديث: "أخبرنا أحمد بن علي، في عقبه قال: حدثنا أبو الربيع، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله".
خامسا: منهجه في نقد الرجال:
كان الإمام ابن حبان يجتهد في توثيق الرواة أو تضعيفهم، ويُزاحم الكبار في ذلك، ويعتمد الحجة في الرد على من يخالفه، ولذا فقد عدّه بعض الأئمة من المتشددين في الحكم على الرجال، الذين يجرحون الراوي بأدنى جرح، ولكن بعض الأئمة نسبه إلى التساهل، لكونه كان واسع الخطو في باب التوثيق.
وقد نازع الإمام ابن حجر في نسبة ابن حبان إلى التساهل، فقال: "إن كانت - أي نسبة التساهل- باعتبار وجدان الحسن في كتابه، فهو مشاحّة في الاصطلاح، لأنه يسميه صحيحا، وإن كانت باعتبار خفة شروطه فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس، سمع ممن فوقه، وسمع منه الآخذ عنه، ولا يكون هناك انقطاع ولا إرسال.
وإذا لم يكن في الراوي المجهول الحال جرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة، ولم يأت بحديث منكر، فهو ثقة عنده، وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذا حاله، ولأجل هذا ربما اعتَرض عليه - في جعلهم ثقات - من لم يعرف اصطلاحه، ولا اعتراض عليه، فإنه لا يشاحّ في ذلك".
وقال الإمام السيوطي: "ما ذُكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، فإن غايته أنه يسمي الحسن صحيحا"، ثم نقل السيوطي نحو قول ابن حجر السالف.
وخلاصة القول: أنه قد يعدّ متساهلا في باب التوثيق، متشددا في باب التضعيف، وذلك باعتبار من سبقه أو لحقه من أئمة الجرح والتعديل.
سادسا: منهجه في صنوف متفرقة:
1- تعارض الإرسال والوصل أو الوقف والرفع:
كان الإمام ابن حبان إذا جاءه الحديث من طريقين صحيحين، أحدهما موصول والآخر مرسل، أو أحدهما موقوف والآخر مرفوع، فإنه يقبل رواية الواصل.
ورواية الرافع، ولا يُعلّ الرواية الأخرى بها لأنهما ثقتان، وخبر الثقة لديه مقبول، لكنه يستثنى منها ما لو كان هناك عدد جم من الرواة رووا الحديث مرسلاً أو موقوفاً، وخالفهم راوٍ أو راويان فرويا الحديث موصولاً أو مرفوعاً؛ فإنه في هذا الحال ينظر إلى من فوقه بالاعتبار، ويحكم لمن يجب.
2- زيادة الثقة:
كان الإمام ابن حبان لا يقبل شيئا من الزيادة في ألفاظ الروايات إلا عن من كان الغالب عليه الفقه، حتى يُعلم أنه كان يروي الشيء ويعلمه، وحتى لا يُشكُّ فيه أنه أزاله عن سَننه، أو غيّره عن معناه أم لا، لأن أصحاب الحديث يغلب عليهم حفظ الأسامي والأسانيد دون المتون، والفقهاء يغلب عليهم حفظ المتون وأحكامها، وأداؤها بالمعنى دون حفظ الأسانيد وأسماء المحدثين.
3- أقسام الحديث (الحسن كالصحيح):
كان الإمام ابن حبان لا يرى التفريق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن، فالحسن عنده قسم من الصحيح وهو داخل فيه؛ ولذلك فإن ما أورده في صحيحه هو صحيح أو حسن، ولم يورد - حسب تقديره - الضعيف بحال من الأحوال.
4- دفع الإيهام الذي قد يتبادر للذهن:
كان الإمام ابن حبان حينما يخرج حديثاً قد يتوهم البعض أنه غير صحيح لأجل أحد رواته فإنه يعقِّب ببيان ذلك، ومن ذلك أنه أخرج حديثاً من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه، ثم ذكر أن بعض الناس قد يطعن في هذا الحديث لأجل تفرد سهيل بن أبي صالح به، ثم بي ـ ن أن سُهيلاً لم يتفرد بالحديث, فأخرجه من طريق أخرى، ليقطع الطريق على من يمكن أن يُعلَّ الحديث.
منهج الإمام ابن حبان المتعلق بالمتون
أولا: منهجه في تقسيم الأبواب وتراجمها:
تدبّر الإمام ابن حبان الصحاح لكي يسهِّل حفظها على المتعلمين، فوجدها تنقسم إلى خمسة أقسام متساوية، متفقة التقسيم غير متنافية، فأولها: الأوامر التي أمر الله عباده بها، والثاني: النواهي التي نهى الله عباده عنها.
والثالث: إخباره عما احتيج إلى معرفتها، والرابع: الإباحات التي أبيح ارتكابها، والخامس: أفعال النبي صلى الله عليه وسلم (التي انفرد بفعلها)، وبعد أن ذكر ذلك قال: "ثم رأيت كل قسم منها يتنوع أنواعا كثيرة.
ومن كل نوع تتنوع علوم خطيرة ليس يعقِلها إلا العالمون.. . إلى أن قال: وإنا نملي كل قسم بما فيه من الأنواع، وكل نوع بما فيه من الاختراع.. . ونبدأ منه بأنواع تراجم الكتاب.. "، ثم شرع يذكر هذه الأقسام والأنواع حتى انتهى منها فقال: "فجميع أنواع السنن أربع مائة"، ومن هذا التقسيم يظهر سبب تسمية المؤلف كتابه هذا ب ـ "التقاسيم والأنواع".
وكان الغالب على تراجم أبواب صحيحه (التراجم الظاهرة)، وهي التي يدل عنوان الباب فيها على مضمونه من الأحاديث دلالة واضحة، لا يحتاج القارئ فيها إلى إعمال فكره لمعرفة وجه الاستدلال.
ثانيا: منهجه في ذكر الفوائد واللطائف:
كان الإمام ابن حبان يعقِّب بذكر الفوائد ويستنبط الأحكام الفقهية؛ ولذا حفِل كتابه باستنباطات فقهية دقيقة، مبنية على أدلتها مستندة إلى نصوصها، يضاف إلى ذلك تعليقاته الهامة على كثير من الأحاديث، يفسر فيها لفظا غريبا.
أو يوضح معنى مستغلقاً، أو يرفع إشكالا، ويزيل إبهاما، أو يجمع بين روايتين الظاهر أن بينهما تضادا، أو يذكر اسم رجل بتمامه إن ذكر في الإسناد كنيته أو العكس، إلى آخر ما ذكره من شوارد وفرائد، زادت في غنى كتابه، وجعلته منقطع النظير في بابه.
إضافة إلى أنه كان يُتبع الأحاديث بكلام بديع في كثير من الأحيان، حيث يوضِّح بعض المعاني التي يحتاج إليها في فقه الحديث، ومن أمثلة ذلك محاولته الجمع بين حديثي بسرة وطلق بن علي في مس الذكر.
فقد وفّق بينهما بقوله: "إن حديث بسرة يعتبر ناسخاً لحديث طلق بن علي"، واستشهد على ذلك بأن قدوم طلق بن علي على النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنه شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد.
وأن حديث بسرة بعد ذلك، لأنها إما كانت في الحبشة, أو أنها هاجرت بعد ذلك، فحديثها يعتبر متأخراً عن حديث طلق بن علي، والمتأخر ينسخ المتقدم.
المصدر: موقع إسلام ويب